ومن الغريب أنه لم يطلب مني أحد ترك موقعي على القبر
حتى افسح المكان لغيري، لكسب الأجر كما هو المعتاد في المشاركة في الدفن.
وكأنها حكمة الله أبقتني لأخذ العبر وأصور المشهد كاملا لمن لم يحضر.
وعند ما أُخْرجَت الجثة من سيارة الاسعاف وحمل على الاكتاف كنت أول من تلقف جسده المهيب لنسلمه الى اثنين من إخوانه الذين نزلوا الى لحده ومنهم شقيه عمر الذي قرح الدمع جفونه واحمر وجهه كالشفق الأحمر.
وعندما سُحب البساط من تحت جسده كان لابد أن نسحب جثته أنا وأحد أقاربه الواقفين على قبره قبل أن تنهال أيدي المشيعين لتساعدنا.
وإذا برأسه بين يدي واستحييت والله أن أضع يدي على رأس قائدي بل حملته من أقدامه وأحسست بلحمه وعظمه ملء يدي
لأن رأسه كان في حياته منصوبا على قامه وهامه، ولا يمكن لجندي مثلي أن يطول رأسه الشامخ. والذي يكسوه (كاب) مطرز بلون الذهب وصدره يحمل هرما من النياشين والأوسمة.
وعندما وُضِعَ في قبره طلبت من أحد أقاربه الذي نزل الى لحده أن يرخي كفنه وأن يفك رباطه وأن يحوله نحو القبلة، وفي لحظة من الإرباك انزلق أحد أقاربه بسبب سقوط شيء بسبط من حافة اللحد، لاح لي في لمحة بعض من وجهه الطاهر فوقعت هيبته في نفسي وأوشكت أن أؤدي له التحية دون شعور مني أنه في ذمة الله.
وقبل أن نضع الألواح على قبره وهو متوسد يمناه
تساءلت كيف يليق (لشرطي) مثلي أن يقف بقدميه على رأسه
أين قواعد الضبط والربط؟!
أين القيم العسكرية وتقاليدها العريقة؟!
أين المسافة اللائقة والكافية التي تعودنا عليها في تعاملنا مع قائدنا؟!
وحتى هذه اللحظة أكاد لا أصدق أن الموت غيبه، ولو همس أحد الحضور في مسمعي أن القائد لم يمت وسوف ينهض في أي لحظة لصدقته.
ثم بدأنا نحث التراب بأيدينا، ومعالي الفريق ضاحي يوجهنا بأن نضع التراب هنا وهناك.
وكافة المشيعين يتناوبون في هذا الأجر
وأنا أشاهد التراب يعلو شيئاً فشيئا حتى تجاوز مستوى أقدامنا.
ورشينا الماء على قبره وثبتنا التراب من أن تذروه الرياح.
وطلب مني سعادة اللواء عبد الرحمن رفيع ان نفسح للشيخ محمد بن حمدان آل نهيان ليلقي موعظة مؤثرة.
والشيخ يتحدث، وأنا أشاهد التراب الذي اعتلى القبر.
أدركت عندها يقينا وحساً بأن القائد أصبح في المكان الذي سار إليه السابقون وسيسير إليه اللاحقون
مكان لا خروج منه إلا يوم يقوم الاشهاد.
ثم صمتنا وكأن الطير على رؤوسنا الا من همهمات وأنين وأزيز من هنا وهناك
تحيرت بماذا أدعو له فبدأت بالأدعية المأثورة.
ثم قلتُ يارب ان عبدك خميس المزينة اجتهد وربما أصاب وأخطأ
وأنت أعلم بنيته.
نتفق او نختلف عليه
فإني لا أذكر أن لي مظلمة عنده
وإن كان لي شيء من ذلك فإني قد سامحته واستغفرت له، اللهم فاغفر له وسامحه.
وإن كانت لإحد من خلقك فدلهم على العفو عنه ومسامحته
اللهم إنك أمرتنا الا ننسى الفضل بيننا، ونشهد أنه عزز من مكانة الأمن ورفع من سمعة أمننا وقوته ومنعته وسار في تحقيق الأمن كما سار قائده بو فارس.
ثم انصرفت من موقع القبر مسافة أمتار لأعزي أهله
وكان في أول الصف بوفارس ثم أهله
تاملت في وجهه فرأيته شاحب حزين والدمع ساكن بين رموش جفنه الأسفل
وكأن الدنيا ألقت بأثقالها عليه
وحزنه هذا لم أشهده حتى في وفاة أبيه وأمه (رحمهما الله).
حتى كان يطبق جفناه لفترة طويله يغيب نظره عنا ثم يفتحه ليستقبل جموع المعزين
عزيته ودوعوت له بالتوفيق وطول العمر
ثم سلمت على أهل الفقيد فردا فردا
ثم انحنيت بعيدا أبحث عن القادة المساعدين وبقية الألوية
أعزيهم وأتأمل في وجوهم وأسأل من القائد الجديد؟
ومن النائب؟
وهل سيكون من جملتهم أو من خارجهم؟
ومن في وجهه شوق للمناصب؟
ومن هو زاهد فيها؟
ومن سيحمل على القبول بها؟
ومن سيخير ؟
ومن ؟
ومن؟
ومن؟
فخلصت أن الخير فيهم جميعا
ولكن العاقل من اتعض بغيره
وان هذا المنصب دونه خرط القتاد:
عصي
منيع
صعب
حمولته ثقيلة
وأعبائه كثيرة
وأن كافة الألوية في نعمة ورخاء ما داموا بعيدين عن هذا المنصب الذي يشيب من هوله الولدان.
ثم تركت كل ذلك وانشغلت بأول ليليلة سيبيت فيها القائد في قبره ولحده
وتساءلت أين ستذهب
نياشينه
ويدلاته العسكرية التي تتجاوز طول الجميع
وسياراته المخصصة له
ومزاياه
ومخصصاته
ومسماه
ومن سيكمل القرارات المؤجلة والطلبات المرفوعه
والتفتيشات القادمة
والتخريجات الآتية
غصت في أعماق التأمل والفكر الذي جرفني بعيدا
وعندما خرجت من المعشرة وسرت على طريق محمد بن زايد
أدركت ان هذا الكون يسيره الله
وأن هناك حاكم عظيم تمنعه مروءته من أن يتخذ قرارات في هذه الساعات العصيبة تقديراً للفقيد وأهله.
وأن حكمته وحنكت سموه رعاه الله وخبرته وتشاوره مع أقرب الناس بهذا الشأن (ولي عهده ونائب رئيس الشرطة بوفارس وأقرب الناس الى سموه)
ستقوده الى التفرس في معادن الرجال واختيار ما يصلح للبلاد والعباد.